بكل صراحة، لم نشهد مثل هذه الظاهرة المزدوجة في وقت واحد، (شتان ما بين عينٍ وأخرى)، حيث اقتنص المواطنون في المناطق المحررة تباشير خير جراء القرارات الحكومية بضبط سعر العملة المحلية، والتي رافقها انخفاض في أسعار المواد الغذائية والمستلزمات الحياتية، فكانت بشائر أملٍ عمّت الجميع.
لكن هذه الإجراءات لم تُحَصَّن بسياج رقابي متين من قبل الغرف التجارية والجهات الأمنية والمجالس المحلية في المحافظات والمديريات، فأصبح الأمر كمن يغرس في الماء، أو كما يُقال "وأنت يا يزيد ما غزيت".
حقيقةً، تطرقنا إلى هذا الموضوع مرات عديدة، لكننا لم نلقَ أذناً صاغية من قبل الجهات المختصة، وكأن الأمر لا يعنيها البتة، فكِلْتَاهُمَا مِنْ طِينٍ وَكِلْتَاهُمَا مِنْ عَجِين. لقد عاد التجار يتلاعبون بشكلٍ فاضح في أسعار المواد الغذائية، وتَنَكَّرَت المصارف لسعر الصرف الرسمي البالغ 425، وتفاقمَ التلاعب بأسعار المشتقات النفطية بين المحلي والمستورد، أما أُجرة المواصلات بين المحافظات والمناطق الداخلية فحدّث ولا حرج، ناهيك عن أسعار الغاز المنزلي و انقطاعٍ متواصل للتيار الكهربائي. ولا سيما الجريمة الأكبر: انقطاع معاشات المواطنين من موظفين مدنيين وعسكريين لشهور دون أي تحرك جاد، لا تزيد عن بَرَاقِعَ من وعود وسفريات... وما إلى ذلك.
من العارِ حقاً أننا نعيش في القرن الحادي والعشرين والمواطن يتضوّر جوعاً، محروماً من أبسط حقوقه ومعاشه الشهري الذي يعد شريان حياته. هذا الأمر كشفَ العورةَ الكبرى للحكومة في عجزها عن توفير وقود لمحطات توليد الطاقة. والأمرُ الأدهى والأمرُّ أن هوامير النهب والفساد من تبعية السفراء والوكلاء والملحقين الدبلوماسيين، يَتَقاضَوْنَ رواتبهم بالعملة الصعبة ويطوفون عواصم العالم ببذخٍ فاحش، وسط صمتٍ حكوميٍّ مطبق يفتقر إلى أي قرار شجاع لِكَفِّ أيديهم عن تلك الأموال الطائلة التي أنهكت كاهل الشعب.
نقولها فماً ملآناً، وصدعاً بالحقِّ نصدعُ: إن أي قرارات تُتخذ بشأن قوت المواطن، لم تُرافَقْ بإجراءٍ رقابيٍ رادع، ولا بعمل بحثي جاد، ولا بضبطٍ لهوامير السوق ومحاسبة المخلين. فما تحقق من نجاحاتٍ كان هشاً، سرعان ما تبخر، وهو ما لمسناه جلياً خلال الأشهر الماضية، بعودة التلاعب وتمرد التجار والمصارف وأتباعهم من أصحاب وسائل النقل. وهذا بمثابة لَعِبٍ بالنار، وسط استياء شعبي غير مسبوق عما يعانيه البلد من تهاوُنٍ قاتل، وتقاعسٍ مُريب من الجهات المختصة عن تحريك هذا الملف المصيري.
نتوجه بهذا النداء إلى الجهات الحكومية، وهي المُطالَبةُ قبل غيرها بالثبات على مبادئها، وفرض هذه الإجراءات بيدٍ من حديد إذا أرادت نجاح الإصلاح الاقتصادي. كما ننبه وزارة الصناعة وغرفها في المحافظات والمديريات لتنهض من سُباتها العميق، فهي تتحمل قِسْطاً كبيراً من مسؤولية هذا التلاعب الفاضح. ولا نعفي قيادة المجلس الانتقالي من الأعلى إلى الأدنى من هذه المسؤولية الجسيمة، وكذلك السلطات المحلية التي تكاد تكون غائبةً إلا من رحم ربي عن القيام بواجبها تجاه معيشة الناس. هذا فضلاً عن المهام المنوطة بالأجهزة الأمنية والرقابية في ملاحقة السوق وردع المفسدين والمتلاعبين، أولئك الذين لا يريدون لهذا الشعب إلا أن يظل في دوامة المعاناة والحرمان.
أخيراً أقولها لا تحذيفَ فيها: إن لم تتحرك الجهات العليا، وتتحمّل مسؤوليتها التاريخية أمام شعبها، فإننا على شفا جُرُفٍ هارٍ من كارثة وشيكة، قد تكون الأسوأ في ظل انقطاع الرواتب والكهرباء والظروف القاسية التي تطحنُ البلد من أقصاه إلى أدناه. ولأن المهمة صعبة، فإنَّ النجاةَ تُحتِّم على الجميع أن ينهض لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فنحن أمام رهانٍ مصيري ومسؤولية تاريخية في إنقاذ هذا الشعب من ويلات التجويع والإفقار. ولن يتحقق ذلك إلا بعملٍ جادٍ لا هوادة فيه، ومحاسبة المخلين، وضبط المتلاعبين، ومعاقبة من تلطخت أيديهم بدماء معيشة المواطن. فإن لم نكن كذلك، فلا تسل عن العواقب، وعلى الدنيا السلام.